يَرحَلُ الكبير زياد الرّحبانيّ (69 عامًا)، ابنُ الكبيرَيْنِ عاصي، وفيروز، في زمَنٍ نحنُ، فِيهِ، بأمَسِّ الحاجة إلى أمثالِهِ مِمَّنْ يعرفون، تمامًا، كيف يزيدون مِساحة الجَمال، حَولنا، اتِّساعًا، وامتِدادًا... وكيف يُراكِمون الضّوءَ، والأمل، انتِصارًا لقِيَم الإبداع، والحقيقة، والحياة، وكرامة الإنسان...
لم يكُن "زياد" فنّانًا استثنائيًّا، فحَسْبُ، بل كان "حالةً" إبداعيّةً نادِرةً لا تُشبهُ سِواها، ولا تتماهَى بغيرِ نفسِها... وكان "مَدرسةً" لا تنفكُّ تتمرَّدُ على ذاتها، وعلى مُقلِّديها، بلا هَوادَةٍ... وهو، في كلّ ما صَنعَ، وأنجَزَ، ما أضاعَ، يومًا، إلهامَ بُوصُلَتِه الأولى، والأخيرة: بُوصُلَة الصِّدق، والنُّبل، وبساطة المقهورين، والبُؤساء، والمعذَّبين في الأرض، كلِّ الأرض...
أنا أتمَرَّدُ، إذًا أنا مَوجودٌ!! هو لسانُ حاله... وهو دأبُه، مُنذُ كان، بَعدُ، طِفلًا، ومُراهِقًا... وقد عاش هذه المعادلة، بلَحمِهِ، ورُوحِهِ، ودَمِهِ، وأعصابه، حتّى الرَّمَق الأخير... وكان كلَّما تمَرَّدَ، عَرَّى الحياة، أكثر، وعَرَّى الواقعَ، والسّياسة، والفلسَفة، والمجتمَعَ... وشَقَّ في أثلامِ الإبداع دروبًا غيرَ مَسبُوقةٍ، وشرَّعَ آفاقًا جديدةً، ورُؤًى تسبق زمانها، وتتجاوَز المكان، وتُخلِصُ للإنسان، وقضاياهُ الحَياتيّة، والوِجدانيّة...
"زياد" الرُّؤيويُّ، الغاضِبُ، السّاخِرُ، الحالِمُ، الثّائرُ، المجَدِّدُ، الحَداثيُّ، الإشكاليُّ، الزّاهِدُ على طريقته، لم يكُن مُجَرَّدَ شخصٍ يفِيضُ مَوهِبةً، وعَبقريّةً، وفَرادَةً، وجنونًا مُبارَكًا، بل كان نهْجًا، وكان بصمَةً، في اللَّحْن، والموسيقى، والكلمة، والمسرح... فأجمَعَ اللُّبنانيُّون على حُبِّه، كما أجمَعُوا على حُبِّ مَن أنجَبَهُ... حتّى أمسَى، في نظر الأجيال، مُعلِّمًا، بل أسطورةً، بل أيقونةً حَيَّةً...
برَحِيل "زياد"، تخسَرُ الثّقافة اللُّبنانيّة أحَدَ أهمّ أعمِدَتها، وتخسَرُ الحضارة الإنسانيّة مُبدِعًا عَنيدًا، وعَلامةً فارِقةً، ووَشمًا أصِيلًا في جَسَد الإبداع الأصِيل... عَزاؤنا في ما ترَكَهُ لنا الرّاحِلُ الكبير مِن إرْثٍ فنّيٍّ، وإبداعيٍّ، خالِدٍ، عَسَى أن نُحْسِنَ تقديرَه، وتكريمَه، في الآتي مِن أيّام بلادنا، وأن نُجِيدَ تربية أولادنا على تثمِين ما خلَّفَهُ لنا عُظماؤنا... و"زياد"، بلا شكٍّ، في طليعة هؤلاء...
وإلى الغالية فيروز، الأمِّ الحزينة، ترحَلُ عُيوننا، وقلوبنا... ونُرنّمُ معها أناشيدَ الرّجاءِ، والمواساةِ، والقِيامة... ونصَلِّي لأجْلها، اليومَ، وفي كلّ يومٍ... ولأجْلِ عافِيتها، وسَلامتها، ورَحمَة مَوتاها، ومَوتانا... المسيحُ قامَ...
الإدارة
ـــ فال بار جاك